lundi 1 mai 2017

سمّية المعرفة

سمّية المعرفة

حسنا يا ولدي، دعك مني و من أحاديثي المجترّة، لن تزيدك المعرفة إلا نكدا، صحيح أنّها مرحة، لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة، هل سيزيد من سعادتك أن تسمّي أعضاء جسمك و تعرف وظائفها الفيزيولوجية، هل ستوقّف عن التّدخين مثلا لو علمت أنك بعد الأربعين و ربما قبل ذلك قد يتوقّف أيرك عن الانتصاب بسبب التبغ، و ما الذي ستضيفه لك نظريّة التطور و مدارسها إذا كنت لا تستطيع أن تلطمْ، كل من يعقّب بكلامك عنها بضحكة بلهاء، وما قيمة معرفتك أنّ سرطان البروستاتا هو أكثر أنواع السرطانات املا في الحياة، عندما تعلم انه أنهى حياة إدوارد سعيد. كما أنّك لن تتوقّف عن اشتهاء الجميلات لو علمت مثلا أنّنا وهنّ نتكون من نفس العناصر الكيميائية، فكلنا من كربون و أزوت و أكسجين و كبريت بنسب متفاوتة، كما أنك عندما تشرع في ضمّ شفتين ناعمتين إلى شفتيك لن تتساءل أي هرمون هو الذي جعلها بتلك الرّقة و اللذة، و يداك تلهوان بنهدين رائعين من المؤكّد أنك لن تفكّر بنسبة البرولاكتين في دم ذلك الجسد.
و قد يطول بك السّهاد يوما و أنت تداعب فراشك الخالي، و حتى لو علمت أن المعري و جبران  لم يتزوجا و لم يتسرّيا يوما لا بجارية و لا بغلام، فلن يغيّر ذلك من الأمر شيئا و لكن قد ينقبض صدرك إذا علمت أن ''الرشيد' تسرّى بالمئات من الجاريات، أو عندما يتناهى إلى مسمعك ذلك الذي قال فيه سكير ما يوما "ناري على شقر الخيل ركبها جحش البهائم"
 وما يهمّك إن كانت الأرض كروّية أو مسطّحة، هل ستغير مكان إقامتك لو كان الله فعلا من خلق هذا العالم في ستة أيّام، أم إذا كان الفضائيون هم بناة الأهرامات، أو أصلا لو كان العالم كلّه حلما مزعجا في رأس عضائة منقرضة
ستنزعج قليلا لو علمت أنّ الشمس ستبتلع الأرض بعد 55 مليارات سنة، و أنّ دستيوفسكي و منيف و شكسبير و الرّسالات السماوية و لينين و ملزومة عبد الرحمان الكافي و معلقة امرؤ القيس.. سيفنى لها أيّ ذكر من أيّ شيئ كان و سيكون، كأنّها لم توجد يوما، و لكن ما شأنك و صخور النيازك إذا لم تسمع الأخيرة بعبد الله العروي و هل سيتوقّف الكون عن التّمدّد لو صرخت طربا لقول سليم بركات "خٌذ الحریَة من ُزقاِء الدیك على أطلاِل الهیكِل"، لن يتغيّر شيئا من هذا كما لم تعرف الشجرات الصمّاء على الطريق الوطني السادس بين ليون و باريس أنّ من مات على جذوعها ذات يوم كان ألبار كامو
و لكنّ معرفتك ما إذا كان ريكاردو أو ماركس هو من اكتشف نظرية فائض القيمة، لن يغيّر من كونك ستبحث عمن يشتري قوّتك الذهنية و العضلية، و إلا فإنك ستموت جوعا، و لن يصيف لك مفهوم الإغتراب شيئا، كما لو أنّ من عاش قبل اكتشاف مخطوطات 1844 لم يحسّ هذا الإغتراب و لم يعه. كما أنّك لن تتوقّف عن وضع السّكر في قهوتك، لو حكيت لك عن مأساة المزارعين الكوبيّين في مزارع السكر أيام الاحتلال الإسباني و الإلحاق الأمريكي.. حتى أنك لن تتوقف عن إهداء" الشوكولا" لصديقتك لو علمت أنّ الأطفال المنتجين في غرب إفريقيا يعملون كالعبيد في سبيل حبات الكاكاو المنمقة، و عندما تشتري "الزارا" و تحرص على إظهار علامته أمام الجميع فلن تغّير إضرابات العمّال المستعبدين في مصانع النسيج الإسبانية شيئا من ألقك و توهّجك.
لن تتلذّذ شيئا بعد الآن، و عندما تستمع بهدف رائع ستضيع نشوتك مع تذكّرك أجور تلك النّجوم المؤلّهة،  و ستضحك من الأسى على نفسك عند رؤيتك فيلما لعادل إمام، يمثل فيه مواطنا بسيطا، و قد تكسر التّلفاز وهو يبثّ مسلسلا تركيا لو تذكّرت بأن "ناظم حكمت أمضى زهرة عمره في السّجن'
 و لا تتحدّث علنا عن فوكو او نغري أو بورديو و عن الجمهور، و الإمبراطورية و عن التشكيلات الأفقية و النضالات التي بلا رأس، و إعادة الإنتاج الاجتماعي، سيضحك منك "الماركسيّون العتيقون" و تتغبّن أمّك عليك و سيتجاهلك الباقون و يضيع صوتك كما هدير الموج على شاطئ صخريّ مهجور،
 يا ولدي إنّ المعرفة سامّة و قاتلة و إن لم تغرسها غرسا في الأرض القاحلة ستحطّم قلبك و تفتك بما تبقى من عقلك ،فبقدر رحابة فكرك يكون ضيق و بؤس عالمك، لا تقرب شيئا منها أبدا، سترى بلدك و العالم سجونا موهومة متوالدة كمتاهات يفضي بعضها إلى بعض و ليس لك منها مهرب، و ستنتهي كصعلوك غاضب يغير على القبائل و تغتصب الأرزاق و النّساء، تقول الشّعر للكلاب السائبة و العاهرات الوحيدات في ليل هذه المدن، و قد يعلنون جنونك و يعاملونك ككلب أجرب، مات في حاوية قمامة، عندها ستتمنى بأنّك لم تأت أصلا لهذا العالم.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire